.على أنّ هناك تطوّرا آخرَ لأدبنا الحديث أعظمُ خطراً
وأبعد أثراً من كلّ ما قدّمتُ، وهو الذّي سيُوجّه الأدبَ في المستقبل
القريب إلى غاياته التي لا يستطيع عنها تحوّلاً أو انصرافاً فيما أعتقد.
ولهذا التّطوّر الخطير وجهان:
أحدهما يتّصل بأشخاص الأدباء، والآخر يتّصل بالموضوعات التي يطرُقُها
الأدباء. فأمَّا الوجه الأوّل فنستطيع أنْ نتبيّنهُ في سهولة ويُسرٍ وإذا
(نظرنا) إلى حافظ وشوقي والمنفلوطي من جهة، وإلى العقّاد والمازني وهيكل من
جهة أخرى، فقد كان الأدباء الثلاثة الأولون (لا يعيشون لأدبهم) وإنّما
يعيشون بأدبهم، أريد أنّهم كانوا يتّخذون الأدب وسيلة إلى الحياة وإلى حياة
(لا تمتاز بالاستقلال)، أمّا الثّلاثة الآخرون فثائرون على هذا النّوع من
الحياة، ومبغضون لهذا النّوع من الأدب ،يُكبِـرون أنفسهم أنْ يَحميَهم هذا
العظيم أو ذاك ويُكبِـرون أدبهم أنْ يرعاهُ هذا القويُّ أوْ ذاك. هم يعيشون
أوّلاً ويعيشون أحراراً، ثمَّ يُنتجون أوّلاً وينتجون أحراراً، وهم
يأْبَون أنْ يُؤدُّوا عن إنتاجهم الأدبي حساباً لهذا أوْ ذاكَ. هم مستقلّون
في إنتاجهم الأدبي بأدقّ معاني هذه الكلمة وأكرمها. وقد تقول (إنّهم
ينتجون للجمهور)، فهم مدينون للجمهور بحياتهم الأدبية، ولكن الجمهور هذا
شيء شائع مجهول لا يستطيع أنْ يعبثَ بحريّة الأديب ولا أنْ يُعرِّضَ كرامته
لما لا يحبّ،وكلّ إنسان في بيئة متحضرة إنّما يعيش للجمهور وبالجمهور، كما
أنّ الجمهور نفسه يعيش لكلّ إنسان وبكلّ إنسان. فالظّاهرة الخطيرة في
أدبنا الحديث هي هذه الكرامة التّي كسبها الأدباء لأنفسهم ولأدبهم والتي
مكّنتهم من أنْ يكونوا أحرارا فيما يأتون وفيما يدعون.
أمّا الوجه الثّاني لهذا التّطوّر فهو أنّ هذه الحريّة نفسَها قد فتحتْ
للأدباء أبواباً لمْ تكن لِتُفْتَح لهم حينَ كان الأدبُ خاضعاً للسّادة
والعظماء. وقد أثّرت ظروف التّطوّر الإنساني في توجيه هذه الحريّة. فقد كان
الأدباء القدماء يُؤثٍرون السّادة والعظماء بما (يُنتِجون)، فأصبح الأدباء
المحدثون يُؤثرون أنفسَهم ويؤثرون الفن ويؤثرون الشّعب بما ينتجون. وكذلك
عكف الأدباء على أنفسهم فحلّلوها وعَرضوها، واستخرجوا من هذا التّحليل
علماً كثيراً ومتاعا عظيماً. وكذلك فَرغَ الأدباء لفنِّهم فجوَّدوهُ كما
يريدون وكما يستطيعون وكما يريد الفنّ، لا كما يريد هذا السّيّد أوْ ذاك.
وكذلك عكف الأدباء على الشّعب، فجعلوا يدرسونه ويتعمَّقون درسَهُ، ويعرضون
نتائج هذا الدّرس ويُظهِرون الشّعبَ على نفسه فيما ينتجون له من الآثار.
وهذا كلّه قدْ رفعه إلى الصّدق والدّقة، وجعلهُ إنسانيًّا، ووضعه حيث وضعتِ
الآدابُ الحيّةُ الكبرى نفسها بحكم التّطوّر الذي دفعتها إليه ظروف الحياة
الحديثة".
طـه حُـــسـيْـن
الــبــنـــاء الــفـكــري
1. حصر الكاتب تطوّر الأدب العربي الحديث في وجهين، ما هما؟ اشرح كلّ وجه.
2. ما الأمر الأساسي الذي مكّنَ الأدباء من أنْ يكونوا أحراراً؟
3. ذكر طه حسين مجموعتين من أعلام الأدب الحديث. ضمن أيّ تيارأدبي تُصنّف كلَّ مجموعة ؟ ما هي أبرز خصائصهما الفنيّة؟
4. ماذا قصد الكاتب بقوله : " لا يعيشون لأدبهم وإنّما يعيشون بأدبهم " ؟
5. الحريّة أمرٌ ضروريّ لكلّ إبداع وتطوّر خاصة في الأدب. حدّد هذا المعنى من خلال النّصّ واشرحه.
6. ما موقف الكاتب من القضية المطروحة ؟ علّلْ واستخرج الألفاظ والعبارات الدّالة على ذلك.
7. لخّصْ مضمون النصّ.
الــبــنـــاء الّــلـغــــوي
1. ما النّمط الغالب في النّصّ؟ ما هي أهمّ خصائصه.
2. ما نوع الأحكام المعتمد عليها في النّصّ؟ في أيّ فنّ أدبي نجدها؟ دعّمْ إجابتك بمثال واضح.
3. من جماليات أسلوب طه حسين حُسْـنُ توظيف أدوات الرّبط من حروف عطف وحروف
جرّ. استخرج مثالين لكلّ نوع وبيِّنْ دلالتها في الجمل الآتية: " فقد كان
الأدباء الثلاثة الأولون لا يعيشون لأدبهم وإنّما يعيشون بأدبهم ... إنّما
يعيش للجمهور وبالجمهور. . ."
4. من مميّزات أسلوب هذا النّصّ كثرة أساليب التّوكيد وتنوّع طرائقه.أين يظهر ذلك؟وماغاية الكاتب منه؟
5. ما نصيب النّصّ من الصّور البيانية ؟ بِمَ تُعلّل إجابتك؟استخرج مثالاً عن صورة وظّفها طه حسين.
6. حلّلْ الصّورة البيانية في قول طه حسين :" فالظّاهرة الخطيرة في أدبنا
الحديث هي هذه الكرامة التي كسبها الأدباء لنفسهم..." وبيّنْ سـرَّ
بلاغتها.
7. حدّدْ المسند والمسند إليه في الجملة الاتية : " أمّا الثّلاثة الآخرون فثائرون..."
8. أعرب ما تحته خطّ إعراب إفراد وما حدّدْ محلّ ما بين قوسين من الإعراب.
الـتقــويـم الـنــقــدي
الـنّـصّ من فنّ المقال.إلى أيّ نوع من المقال ينتمي؟ ما هي خصائص هذا النّوع ؟ دعّمْ كلّ خاصية بمثال من النّصّ.
كيف ساهم طه حسين في تطوير هذا الفن؟ وضّحْ ذلك من خلال بعض خصائص أسلوبه.