شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم .

يوم
القيامة وإن كان يوم المخاوف والأهوال ، إلا أن رحمة الله تعالى تدرك
عباده المؤمنين ، وتتجلى تلك الرحمة في إذنه سبحانه لمن شاء من عباده أن
يشفعوا في العصاة ممن يرضى الله عنهم ، قال تعالى : { مَنْ ذَا الَّذِي
يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ } ( البقرة: من الآية 255) ، وقال تعالى
: { وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ
مُشْفِقُونَ } ( الأنبياء :28) ) ، فالشفاعة في ذلك اليوم من أعظم الرحمات
التي يمتن الله بها على عباده ، ولا سيما في حق العصاة ممن استحقوا دخول
النار أو دخلوها ، فكم هي فرحتهم وكم هي سعادتهم عندما يحال بينهم وبين
دخول النار ، أو عندما يخرجون منها بعد دخلوهم فيها .

وأعظم
الشفاعات التي تجري في ذلك اليوم هي شفاعته صلى الله عليه وسلم في بدء
الحساب للفصل بين العباد ، ذلك أن الخلق يطول بهم المقام في ساحة الحساب ،
وتدنوا الشمس من رؤوسهم مقدار ميل ، ويبلغ بهم الجهد والعرق مبلغاً عظيماً ،
فيجتمع رأيهم حينئذ على طلب الشفاعة من الأنبياء ، ليشفعوا لهم عند ربهم ،
فيأتون آدم ونوحا وإبراهيم وموسى وعيسى وكلهم يـأبى عليهم ، ويذكر لنفسه
ذنبا إلا عيسى بن مريم ، فلا يذكر لنفسه ذنبا ولكنه يأبى الشفاعة ويحيل
الناس على النبي صلى الله عليه وسلم فيأتونه ، فيقول أنا لها ، أنا لها ،
فيشفع صلى الله عليه وسلم إلى ربه ليفصل بين عباده ويريحهم مما هم فيه .

وهذه
الشفاعة مما اختص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم وهي
المقام المحمود الذي وعده ، وهناك شفاعات أخرى يكرم الله بها نبيه ، ويخصه
بها دون سائر الأنبياء ، منها شفاعته صلى الله عليه وسلم في استفتاح باب
الجنة ، قال صلى الله عليه وسلم : ( أنا أول شفيع في الجنة ) رواه مسلم .

ومن
أنواع شفاعته صلى الله عليه وسلم شفاعته في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب ،
فقد قال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم : ما
أغنيت عن عمك - يعني أبا طالب - فإنه كان يحوطك - يحميك - ويغضب لك ، قال :
( هو في ضحضاح من نار ، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار ) متفق
عليه .

ومن أنواع الشفاعة شفاعته صلى الله عليه وسلم في عصاة
المؤمنين ، وهذه المرتبة من الشفاعة يشركه فيها سائر إخوانه من الأنبياء
عليهم السلام ، والملائكة ، وصالحي الأمة وشهدائها ، وهي تكون فيمن استحق
النار ألا يدخلها ، ومن دخلها أن يخرج منها . وقد تواترت الأدلة في إثبات
هذا النوع من الشفاعة ، منها ما ثبت في صحيح البخاري أن المؤمنين الذين
اجتازوا الصراط يقفون يجادلون في إخوانهم الذين دخلوا النار فيقولون : ربنا
كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون ، فيقال لهم : أخرجوا من عرفتم ،
فيُخرجون خلقا كثيرا ، منهم من قد أخذته النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه .
ثم يقولون : ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به ، فيقول : ارجعوا فمن
وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه ، فيخرجون خلقا كثيرا ، ثم
يقولون : ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا ، ثم يقول : ارجعوا فمن وجدتم
في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه ، فيخرجون خلقا كثيرا ، ثم يقولون
ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا ، ثم يقول : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه
مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ، ثم يقولون : ربنا لم نذر
فيها خيرا ، فيقول الله عز وجل : شفعت الملائكة ، وشفع النبيون ، وشفع
المؤمنون ، ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما
لم يعملوا خيرا قط - أي مع إتيانهم بأصل التوحيد وأركانه - قد عادوا حمما ،
فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة
في حميل - جانب - السيل .

هذه هي الشفاعة رحمة الله لعباده
المؤمنين في ذلك اليوم العظيم ، الذي لم يغضب الله قبله مثله ولن يغضب بعده
مثله ، ومع شدة غضبه سبحانه إلا أن رحمته سبقت غضبه فمنَّ على عباده
بالشفاعة ، فيا لها من رحمة ويالها من منة ، فينبغي للمسلم أن يحرص على
تعاطي الأسباب الموجبة لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأعظم تلك
الأسباب توحيد الله سبحانه حقاً ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( أسعد
الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه ) رواه
البخاري ، ومن الأسباب الموجبة لشفاعته صلى الله عليه وسلم ، الدعاء له
بالمقام المحمود ، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من قال
حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا
الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم
القيامة ) رواه البخاري ، ومن أسباب شفاعته صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه
عشرا في الصباح وعشرا في المساء ، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من صلى علي حين يصبح عشراً وحين يمسي
عشراً أدركته شفاعتي يوم القيامة ) رواه
الطبراني وحسنه الشيخ الألباني .